الأحكام الشريعة التي تتعلق بحُكم بيع وشراء الأراضي في فلسطين
عقيدة


الأحكام الشريعة التي تتعلق بحُكم بيع وشراء الأراضي في فلسطين:
اتفق الفقهاء على أن من حق المسلم أن يتملك ملكية فردية خاصة به، كما أنه يجوز له أن يتصرف في ملكه بالطريقة التي يراها مناسبة، إلا أنّ الحرية المطلقة تولّد مفسدة مطلقة، لذلك لابد من وجود ضوابط شرعية، ومن أهم هذه الضوابط أن الملكية الفردية لا تتعارض مع ملكية جماعية وأن لا توقع ضررا بالأفراد أو المجتمعات.
فالمسلم مستأمن من الله على الأرض، وعليه إعمارها، والحفاظ عليها، لا سيما الأراضي المقدسة، ومن يعطي للاحتلال فرصة بالتمكُّن من هذه الأراضي، يعد خائنا لأمانة التكليف الرباني. فقال الله في سورة الأنفال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ". وعند الحديث عن أرض فلسطين، فإنها أرض مقدسة بالنسبة للمسلمين، أي أنها أرض جميع المسلمين، وللفلسطينيين حق المنفعة كونهم سكانها، فهي وقف إسلامي، لذلك عند بيع أو شراء الأراض الفلسطينية، يشترك هذا البيع مع ملكية جماعية؛ وهم المسلمون جميعا، وأنّ مصلحة جميع المسلمين هي عدم بيع الأراضي المقدسة للاحتلال، أو لأي جهة ستشكل ضررا على المسلمين، وعلى أحقيتهم بالصلاة في المسجد الأقصى.
فعندما يريد الفلسطيني أن يبيع أرضه لشخص ما، لابد من التحقق من أن هذا الشخص يكون من الثقات، والصادقين، ولا ينتمي لأي جه داعمة للكيان الصهيوني المحتل، لأنه هناك كثير من العرب المسلمين الذين يشترون الأراضي الفلسطينية، ثم يبيعونها، أو يعطونها مباشرة للاحتلال الإسرائيلي، فهم بماثبة الوسيط بين الشعب الفلسطيني، والكيان الغاصب. أما إذا صَعُب التحقق، وهو في الغالب يصعُب التحقق في هذا الزمان، فإنه يحرُم البيع.
لأن عمليات البيع تساهم في تهويد فلسطين عامة، والقدس خاصة، وهذا يؤدي إلى تغيير شكل المدينة، ومعالمها الجغرافية، والديموغرافية، وهذا يؤثر على المقدسيين عند إخراجهم من أراضيهم وتمكُّن العدو من هذه الأراضي، فيشعر المقدسيون بفقد الأمل، وشعور الغربة في مدينتهم، وهذا ما تسعى إليه إسرائيل بكل جهدها، من خلال شراء الأراضي تحت أسماء شخصيات عربية، والتضيقات المستمرة، والاعتقالات، ونشر الفساد، والبطالة، وزيادة نسبة المستوطنات، خاصة في مدينة القدس، فعدد المستوطنات في مدينة القدس، أكثر من عددها في الضفة الغربية كاملة، وهذا بطبيعة الحال يفرض هيمنة وسُلطة أكبر للاحتلال على القدس، والمسجد الأقصى وبواباته، وهذه الهيمنة تؤدي إلى تضيقات مستمرة على مسلمي العالم أجمع، للصلاة في المسجد الأقصى.
بالإضافة إلى أن كثرة بيع وشراء الأراضي المقدسة، تجعل الناس يألفون ذلك، وتفتح الأبواب أمام الطامعين بالأراضي المقدسة، فيؤدي ذلك لضياع حقوق المسلمين، وسيطرة العدو على مقدساتهم. فقال الله في سورة الممتحنة: "إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ".
لذلك يتمسك المقدسيون ببيوتهم، فلا يتروكونها، ولا يبيعونها، حتى لو هدمها الاحتلال، أو عرضوا عليهم العروض المغرية، يبقون صامدين في أراضيهم، وها هي المقدسية هناء صلاح، أم حمزة نموذجا على ذلك، حين قالت: "عرضوا عليّ شيكا مفتوحا، فقلتلهم هالأرض إلها ثمن، بس ثمنها دمي ودم ولادي ودم كل مسلم"، فرغم أن الاحتلال هدم جزء كبيرمن بيتها ولم يبقى لها إلا غرفتين، لتعيش هي وزوجها وأبنائها الستة فيها، ومع ذلك ترفض البيع.
فالمسلم مستأمن من الله على نفسه، وأرضه، وعرضه، وماله، وأهله، ودينه، وعليه أن يحافظ عليهم. وكيف لو اجتمعوا جميعا في موقف واحد، كما يحصل الآن في القدس الشريف، فالمقدسيون كانوا ومازالوا يفدون بأرواحهم دفاعا عن دينهم، ومالهم، وعرضهم، وأرضهم، وأهلهم، بالنيابة عن المسلمين جميعا.
لذلك اتفق الفقهاء اليوم على حُرمة بيع العقارات وتسريبها للعدو الصهيوني، أو أي محاولة في تسهيل المهمة لهم أو السمسرة، أو أن يكون وسيط في هذا البيع، أو السكوت والتكتم على هذا البيع، فإن مثل هذه التصرفات أو الرضا بها، يصل لحد الكبائر المستحقة للّعن والطرد من رحمة الله تعالى، والمستوجبة لعذابه في الآخرة، بل وصف بعض العلماء هؤلاء بالمرتدين عن الإسلام؛ أي أنهم يأخذون أحكام الردة، فلا يُدفنون مع المسلمين، ولا يُغسّلون، وغيرها من أحكام الردة. فقال الله في سورة البقرة: "وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا ۚ أُولَٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"، وذلك لما يحملُه هذا التصرف من ضرر يلحق جميع المسلمين، خاصة أهل القدس، فضلا عن أن هذا الأمر يُمكّن اليهود والإسرائيليين في بلاد المسلمين.
لا يُعذر أحد بسبب الجهل في حكم هذه المسألة، فالإنسان المسلم لا يُعذر بجهله في الضرورات الإسلامية، كما اتفق العلماء.
وكان للمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة الحاج أمين الحسيني، وعلماء فلسطين دور بارز. فقد أصدر مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935 فتوى بإجماع علماء المسلمين من العراق، ومصر، والهند، والمغرب، وسوريا، وفلسطين، والأقطار الإسلامية الأخرى، على تحريم بيع الأرض في فلسطين لليهود، وتحريم السمسرة علي هذا البيع، والتوسط فيه، وتسهيل أمره بأي شكل وصورة، وتحريم الرضا بذلك كله، والسكوت عنـه، لذلك هذا يستلزم الكفر والارتداد عن دين الإسلام. وأصدر الشيخ محمد رشيد رضا فتوى بتحريم بيع الأراضي لليهود أو الإنجليز وأن البائع خائن لله وللرسول، ويُقاطع هؤلاء الخونة فلا يعاملون، ولا يزوجون، ولا يُردُّ عليهم السلام.
وقام عُلماء المجلس الإسلامي بحملة كبرى في جميع مدن وقرى فلسطين ضد بيع الأراضي لليهود، وعقدوا الكثير من الاجتماعات وأخذوا العهود والمواثيق على الجماهير بأن يتمسّكوا بأرضهم، وأَلا يُفرِّطوا بشيء منها. وقد تمكن العلماء من إنقاذ أراض كثيرة كانت مهددة بالبيع، حيث اشترى المجلس الإسلامي الأعلى قرى بأكملها مثل دير عمرو، وزيتا، والأرض المشاع في قرى الطيبة، وعتيل، والطيرة، وأَوْقف البيع في حوالي ستين قرية من قرى يافا. وتآلفت مؤسسات وطنية أسهمت في إيقاف بيع الأراضي، فأُنشئ "صندوق الأمة" بإدارة الاقتصادي الفلسطيني أحمد حلمي باشا، وتمكّن من إنقاذ أراضي البطيحة شمال شرقي فلسطين، ومساحتها تبلغ ثلاثمائة ألف دونم.[1]
وهناك فتوى أخرى تفيد أيضا بتحريم بيع الأراض الفلسطينية، وتعدها خيانة لله ورسوله، وتعود لفتوى ثلة من علماء المسلمين، صدرت 1406 ه / 1985، من قِبل 63 عالما من 18 دولة.
حق العودة والتعويض
يحق لكل فلسطيني لاجئ حق العودة لأرضه، والتعويض عن سنوات الشتات، والتهجير، وكل ما فقد، لكن لا يجوز له الاختيار بين العودة أو التعويض، لأن المحظور قائم فيها، فهذه الأرض هي وقف إسلامي كما ذكرنا سابقا، فلا تساوم مع الاحتلال عليها. أي من لا يُريد أن يعود لأرضه، فلا يحق له أن يقبل بالتعويض ويرضى به.
الحُكم الشرعي في قبول التعويض، حسب فتوى لجنة العلماء في حزب جبهة العمل الإسلامي:
إن أرض فلسطين أرض خراجية وقفية مُقدسة مباركة بإجماع الصحابة منذ الفتح العمري، وقبول التعويض والتنازل عنها لغير المسلمين من أعداء الإسلام باطل شرعا، فإن الذي يقبل بالتعويض عن أرضه، وعقاره في فلسطين لليهود يكون مشاركا في التنازل عن إسلامية أرض فلسطين لتصبح يهودية، ومُساعدا على هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل على أنقاضه، ويكون مواليا لليهود، ناصرا لهم في تحقيق أهدافهم التوراتية بتهويد أرض الإسلام وفلسطين، وهدم المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث المسجدين الذي تُشدُ إليه الرحال، خائنا لوطنه ومقدساته، بائعا لدماء المجاهدين والعلماء والشهداء، الذين ضحّوا بأرواحهم، وأموالهم، ودمائهم لتحرير فلسطين منذ عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى يومنا هذا. وهذا كله من أعظم الكبائر والآثام وموالاة لأعداء الله، والله يقول في سورة المائدة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ".
بقلم:
د. نذير الصالحي
أ. لبنى معوض
[1] د/محسن محمد صالح- هل باع الفلسطينيون أرضهم؟ وتخلوا عنها لليهود؟!
