الهيكل المزعوم

يؤمن اليهود أنه عندما عاد موسى ﷺ من مناجاته لله، جاء بألواح الشريعة، التي كتبها الله، ووضع فيها الوصايا العشر، وجاء منها الـ 5 أسفار، ثم طلب الله منه أن يضع هذه الوصايا داخل تابوت ذهبي، ويبني خيمة، ويُسمّيها خيمة الاجتماع، وعُرفت بـ"قدس الأقداس"، وظلت هذه الخيمة تنتقل بين العائلات الإسرائيلية داخل سيناء، ووضع موسى داخلهما المعمدان، وتابوت العرش الذهبي، والأكل، وحسب الرواية اليهودية، أن كل واحد يقرأ هذه الوصايا لا يكتب أو يحرّف أي شيء على هذه الوصايا لأكثر من 40 سنة، وبعد وفاة سيدنا موسى جاء يوشع بن نون، وبعده جاء داود ﷺ، وحسب رواياتهم أن خيمة الاجتماع ما زالت معهم، ومازالوا يتعبدون داخلها، وأن الرب يتنزل على هذه الخيمة، فيعتقدون أن الله له عرشان عرش في السماء، وعرش داخل التابوت الذي يحتوي الوصايا العشر "الأسفار الخمسة"، وبقيت الخيمة التي يتنقلون بها من مكان لآخر، هي مكان العبادة لهم، وبيت الرب، حتى بنى لهم سليمان -على حد وصفهم- الهيكل على هضبة موريا، مكان المسجد الأقصى، لوضع التابوت الذي يحتوي على الوصايا العشر فيه، وأصبح الهيكل هو مكان عبادتهم، ورغم إثبات العلم القديم والحديث عدم صحة هذا الكلام، إلا أنهم يسعون طوال الوقت لهدم المسجد الأقصى وإعادة بناء الهيكل المزعوم.

تعرّض الهيكل المزعوم -على حد وصفهم- للتدمير على يد القائد البابلي نبوخذ نصَّر أثناء غزوه لأورشليم "القدس"، وسبيهم إلى بابل، "السبي البابلي"، ثم حكم الفرس منطقة فلسطين وبلاد الشام، لكن في عهد الملك الفارسي قورش، سمح لليهود بالعودة إلى القدس، -على حد وصفهم- وإعادة بناء الهيكل، لكن بعد الفرس، جاء الحكم الإغريقي، ودمر الملك السلوقي أنطيخوس الرابع، الهيكل المزعوم للمرة الثانية -على حد وصفهم- وأجبر اليهود على اعتناق الديانة الوثنية اليونانية، وعلى إثر ذلك اندعلت ثورة المكابيين، ونجح اليهود بالحصول على القدس، وإحياء الهيكل المزعوم -على حد وصفهم- للمرة الثالثة. بعد فترة من الفوضى استولى الرومان على بلاد الشام، وبعدها قام القائد الروماني "تيتوس" باحتلال القدس، وحرق الهيكل وقتل عددا من اليهود. ففي كل مرة يتم الحديث عن بناء الهيكل وهدمه في المصادر اليهودية لا يتم الحديث عن موقعه بالتحديد، مما يؤكد أن مكان الهيكل ليس محل المسجد الأقصي، فهو غير محدد.

ومنذ ذلك الوقت واليهود يحاولون إعادة بناء الهيكل المزعوم، وكانت كل محاولاتهم يتم إخمادها، حتى نهايات القرن الـ18، في محاولات للعثور على أي آثار لتلك المزاعم، أو أي إثبات على صحة رواياتهم، وآخرها في سنة 1967، عندما قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بالحفر في مناطق متعددة أسفل المسجد الأقصى، ولم تجد أي أثر يدل على أن هذه المكان كان فيه الهيكل في يوم من الأيام. فقرروا إيهام اليهود، والعالم أجمع بأحقيتهم بأرض فلسطين، والترويج للرويات اليهودية الإسرائيلية الصهوينة، فظهرت كتابات يهودية في كُبرى الصحف الغربية والعالمية تدعو إلى إعادة بناء الهيكل في فلسطين. وكانت أول خطوة عملية رسمية، في عام 1918 عندما طلبت البعثة اليهودية من الحاكم العسكري البريطاني "ستورز"، استلام حائط البراق "المبكى" وهو أحد أسوار المسجد الأقصى، إضافة إلى مشروع تملك أراض في المدينة المقدسة، وطلب إنشاء جامعة عبرية في القدس، لإجراء كل الدراسات والأبحاث لتهويد المنطقة، وغيرها من قضايا، وهذه الجامعة موجودة حتى الآن.

اعترض الفلسطينيون على ذلك، فاندلعت ثورة البراق سنة 1929، وعلى إثر ذلك أُنشئت جمعية "حراسة المسجد الأقصى"، وبسبب كل هذه الاضطرابات، صرّحت عُصبة الأمم بأن ملكية حائط البراق والرصيف التابع له يعود للمسلمين، كونه جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى، ورغم ذلك بقي اليهود يمارسون كل أنواع الاعتداءات على المسلمين، داخل وخارج الحائط.

وفي عام  1969، قام اليهود بحرق المسجد الأقصى، وقامت سلطات الاحتلال الإسرائيلية بقطع المياه عن منطقة الحرم، ومنعت المواطنين العرب من الاقتراب من ساحاته. وجميع العالم استنكر فعلت اليهود، لكن لم يتغير أي شيء على أرض الواقع. بعد ذلك شُكِّلت أكثر من 15 منظمة وجماعة دينية متطرفة داخل إسرائيل وخارجها، تهدُف جميعها إلى هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل سليمان على أنقاضه، ومن أهم هذه الجماعات المتطرفة جماعة "أُمناء جبل الهيكل"، حيث قامت في سنة 1967 بالحفر تحت البيوت والمدارس والمساجد العربية المحيطة بالمسجد الأقصى، بحجة البحث عن هيكل سليمان، ثم في سنة 1968 بدأت الحفريات تحت المسجد الأقصى نفسه، فحفرت نفقا عميقا، وطويلا تحت الحرم، وأنشأت بداخله كنيسا يهوديا، يعرض نماذج للهيكل، وفي سنة 2000 قامت هذه الجماعة بوضع حجر الأساس لهذا الهيكل بشكل رمزي، ودائما ما يروجون لفكرة وجود الهيكل بين اليهود والمسيحيين الأصوليين الذين يعتبرون قيام إسرائيل عام 1948 تأكيدا لنبوءات التوراة، حول نهاية العالم وإحلال مملكة جديدة مع المجيء الثاني للمسيح بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة، وينتظر هؤلاء المسيحيون – وفقا لتصوراتهم – اكتمال خطة الرب بعد تأسيس إسرائيل.

ويوجد ملايين الأشخاص حول العالم، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية يؤمنون بهذه العقيدة من بينهم رؤساء، ووزراء سابقين في الإدارة الأمريكية، ويعتبرون ذلك مصدرا مهما للدعم السياسي والمالي لنشاطات هذه الجماعة. فهذا بدوره يُبرر المساعدات غير المحدودة من قبل بعض الدول، وخاصة الغربية منها، لإسرائيل.

وأُنشأت مدرستين تلموديتين بالقرب من حائط البراق لتدريب مائتي طالب على شعائر العبادة القربانية، وهي الشعائر الخاصة بالهيكل، وإحدى هذه المدارس معهد جبل الهيكل "يشيفات هبايت"، وظيفتها الأساسية التعجيل ببناء الهيكل.[1] وكثير من الجماعات الأخرى التي تعمل بشكل متواصل على تهويد المنطقة، وإعادة بناء الهيكل المزعوم، مثل جماعة "جبل الهيكل في أيدينا" اليهودية المتطرفة، التي قامت على إثر عملية طوفان الأقصى، بالتهديد بإغلاق المسجد الأقصى، حتى إطلاق سراح جميع الأسرى الإسرائيليين في غزة، وغيرها من جماعات أخرى.

 فاليهود وبعض الطوائف المسيحية خاصة البروتستانت اليهودي، وأغلبية البروتستانت المسيحي يؤمنون بأنه بمجرد بناء الهيكل، تسكن روح الرب الأرض الموعودة، فتصبح مدينة الرب، فلا حاجة للقتال، ولا للتعب، فالرب سيدافع عن اليهود، ويحميهم، لذلك يسعون لبناءه بأسرع طريقة ممكنة، ويعتقدون أن التدخل البشري، يُسرّع عملية التدخل الإلهي، فيرون أن قيام دولة إسرائيل هو من أجل تسريع بناء الهيكل، ونزول المخلّص، لذلك هناك كثير من الدول الأوروبي والأفراد البروتستنتيين يدعمون المشروع الصهيوني الإسرائيلي، لسبب علماني، ولسبب عقائدي.

إلا أن هناك طوائف أخرى خاصة الأرثدوكسيين يعتقدون بأنه لا يجب أن يكون الأمر بتدخل بشري، فإرادة الله هي من تتحكم ببناء الهيكل، ونزول المخلّص، لذلك هم ضد هذا التجمع الحالي، فاليهود الذين يدعمون الفكر الإسرائيلي الصهيوني لا يريدون إرادة الله، بل إدراة الإنسان، فهذا يؤكد على علمانية الدولة الإسرائيلية، الصهيونية، وأنها تستخدم الدين فقط كذريعة للاحتلال وفرض السيطرة.

آخر محاولات تهويد الأراض المقدسة، هو تصريح رئيس المجلس البابوي للحوار مع الأديان الكاردينال البريطاني إدوارد كاسيدي حينما قال "إن القدس عاصمة إسرائيل‏،‏ لكنها أيضا مكان للديانات السماوية الثلاثة، وراقت هذه الفكرة الإسرائيلين، وبعض الدول والأفراد في العالم الغربي، والشرقي، والعربي، وأن التعايش مع الأديان أمر مهم وأساسي، كون أن الأديان الثلاثة إبراهيمة؛ أي جاءت من نسل سيدنا إبراهيم. لكن كل هذه الإدعاءت كانت فقط من أجل التطبيع مع الكيان الصهيوني، وفرض سيطرته وهيمنة على المنطقة، فالمُطّلع على الدين اليهودي والمسيحي، يجد أن سيدنا إبراهيم، والأنبياء، والكتب، والرويات التي يؤمنون بها، لا تتطابق مع الروايات الإسلامية، فما يوجد الآن كله محرّف باعترافهم، فكيف يمكننا أن نعتبر أننا ننتمي لدينا واحدا، وندعوا للتعايش مع من يحتل أرضنا وينتهك عرضنا، ويسرق أموالنا، وشبابنا، وطاقاتانا، فالتعايش مع الآخر من أهم ما يُميّز الإسلام والمسلمين عبر التاريخ، لكن التعايش مع المحتل، يُعدُ ذُلا، وخضوعا، وفقد للذات، والأرض، والعرض، والدين.

[1] هيكل سليمان.. البحث عن السراب: https://bit.ly/4b4pFQM

مواضيع ذات صلة