المقاطعة من منظور إسلامي

عقيدة

6/2/20242 دقيقة قراءة

المقاطعة من منظور إسلامي

القاعدة الفقهية التي يُنطلق منها عند إصدار الأحكام الشرعية، هي الموازنة بين المصالح والمفاسد، على أساس جلب المصالح ودرء المفاسد، إلا أن درء المفاسد مُقدم على جلب المصالح. فالأصل في الإسلام هو جواز التعامل بالبيع والشراء مع اليهود وغيرهم، فالرسول محمد ﷺ تعامل مع يهود المدينة بالبيع، والشراء، والقرض، والرهن وغير ذلك من المعاملات المباحة في ديننا.

فعن عبد الرَّحمن بن أبي بكر رضي اللَّهُ عنهما قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ مُشْرِكٌ بِغَنَمٍ يَسُوقُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: بَيْعًا أَمْ عَطِيَّةً أَوْ قَالَ أَمْ هِبَةً؟ قَالَ: لا، بَلْ بَيْعٌ، فَاشْتَرَى مِنْهُ شَاةً، لكن في كل ما هو حلال، ولا يُستعان به في الحرب على المسلمين، فقال ابن بَطَّال: مُعَامَلَةُ الْكُفَّارِ جَائِزَةٌ، إِلا بَيْعَ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وإذا ما حصل عداء على المسلمين، فعلى المسلمين الجهاد بالنفس والمال، ومن أبواب الجهاد بالمال هو إضعاف اقتصاد العدو، وكسر جبروته، فالمال هو عصب الحروب. فقد قال النبي ﷺ: "جَاهِدُوا الْمُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ" فالمقاطعة هي جهاد بالمال، ونشر الوعي حولها هو جهاد بالسان، فاليوم أصبحت المقاطعة هي بندقية من لا يستطيع حملها.

 

أول مقاطعة في الإسلام:

أول من قام بفعل المقاطعة في الإسلام هو الصحابي ثمامة بن أثال عندما استأذن ثمامة الرسول أن يؤدي العمرة فكان أول مسلم يدخل مكة ملبِّيا، وكانت لا تزال بيد الكفار، ولا يزال فيها الأصنام. وعندما دخل مكة، بدأ يلبي، فسمعت قريش ذلك فكانت تريد قتله، لكنهم عرفوا أنه ثمامة ملك نجد، فسألوه: ما بك يا ثمامة، أصَبَوْتَ؟ يعني هل تركتَ دينك ودين آبائك؟! قال: ما صبوت، ولكني اتبعتُ خير دين، اتبعت دين محمد. وعندما انتهى من عمرته قال لسادات قريش (أقسم برب هذا البيت إنه لايصلكم بعد عودتي إلى اليمامة حبةٌ من قمحها أو شيء من خيراتها حتى تتبعوا دين محمد عن آخركم) فهذه المقاطعة جعلت الأسعار ترتفع في مكة، ويفشو الجوع ويشتد الكرب. والرسول حينها لم ينكر فعل ثمامة، وعندما خاف أهل مكة على أنفسهم وأبنائهم الهلاك، كتبوا إلى الرسول ﷺ يقولون: إن عهدنا بك تصل الرحم وتحض على ذلك...وإن ثمامة بن أثال قد قطع عنا ميرتنا؛ أي طعامنا، وأضرَّ بنا. فإن رأيت أن تكتب إليه أن يبعث بما نحتاج إليه فافعل. فكتب عليه الصلاة والسلام إلى ثمامة بأن يُطلق لهم ميرتهم فأطلقها. بعدما تحقق انكسار جبروتهم، وبيان ضعفهم، ومعرفتهم لقيمة الإسلام، حتى لا يعتدون على المسلمين مرة أخرى.

قيام الرسول  بالمقاطعة:

وقام الرسول بفعل المقاطعة مع ثلاثة من الصحابة الذين تخلفوا عن المشاركة في غزوة تبوك، دون عذر شرعي مقبول، وهم: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، وقد تخلّفوا بسبب ضعف إيمانهم في ذلك الوقت، فقاطعهم الرسول 50 يوما، ثم نهى الناس عن محادثتهم، فتجنبهم الناس، فلم يكلمهم أحد، ولم ينظر إليهم أحد. وهنا نرى الاستجابة السريعة والكاملة من أهل المدينة جميعا، فلا جدال، ولا نقاش، ولا مبررات، ولا استثناءات، ولا وساطات، بل ولا أحد منهم قال للنبي ﷺ هذا رجل من السابقين، هذا كان صالحا. ومع أن من خلال هذه المقاطعة قُطِعت مصالح كثيرة، وكل واحد من هؤلاء له علاقات كثيرة، يتاجر مع هذا ويعمل مع هذا، ومتزوج من بيت فلان، وقريب من هذا، لكن تُهدَم كل المصالح أمام درء المفاسد. وبقوا في حالة المقاطعة، حتى تابوا لله توبة نصوحة، وقَبِلَ الله توبتهم، حيث قال تعالى في سورة التوبة: "وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". ونرى هنا أن العفو حل عليهم لحظة انكسار حبهم للدنيا، وظهور ضعفهم أمام الله، ومعرفة حدودهم، ورغم أنهم كانوا مسلمين، فكيف هو الحال مع عدو الإسلام، وقاتلهم، وسارق أرضهم، ومشردهم.

وكما قال ابن تيمية رحمه الله: ليس العاقل الذي يعلم الخير من الشر، وإنما العاقل الذي يعلم خير الخيرين وشر الشرين. فالشراء من المنتجات الإسرائيلية أو الداعمة لإسرائيل غير أنها تساهم في هدر دماء المسلمين، إلا أنها أيضا تضعف الاقتصاد الوطني العربي الإسلامي، وتجعل الدولة الإسلامية تعتمد بشكل تام على المصادر الخارجية وعلى الاستيراد، فتتحول الدولة من مُنتِجة ومُصدِّر، إلى مُستهلِكة ومُستورِدة فقط، ومن دولة مُحرّرة وقوية ومُسَيطِرة، إلى دولة خاضعة مُسيطَر عليها، وهذا فيه مفسدة كبيرة على اقتصاد وحال الأمة الإسلامية.

وقال الله في سورة المائدة: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" فمن باب أولى أن تنفع أخاك المسلم، وتقوّي اقتصاده، وتنمى ماله، قبل الذهاب لغير المسلم، بالإضافة إلى أن هذا التعامل يجعلك تستسهل الأمر، ثم تستسيغه، فيصبح مألوفا، ويتحول لعادة، مثل شُرب قهوة الصباح من مكان معين، أو الشراء من هذه الشركة، فتصبح المقاطعة مزعجة للعقل فهي تحارب عادات ألفناها، وهذا ما يحدث الآن مع كثير من المنتجات التي تدعم إسرائيل.

وكيف هو الأمر لو عرفنا أن هذه المنتجات أو الأماكن، أوالشركات، تعين على تمويل الحروب ضد المسلمين، وقتل اخوانك واخواتك وأطفال المسلمين؟! حيث قال الله في سورة الممتحنة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ".

إلا أن البعض يرى في المقاطعة ضرر لوكلاء هذه الشركات، والمنتجات، والعاملين فيها، فهم من العرب وبعضهم من المسلمين، فبهذا يلحق الضرر بهم وبعائلاتهم. لكن هنا نعود إلى القاعدة الشرعية وهي: الموازنة بين المصالح والمفاسد، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ففي عملهم مصلحة لهم ولعائلاتهم، لكن تجنُب التعامل مع هذه الشركات والمنتجات يُضعف العدو الذي يسفك دماء اخواننا المسلمين، وينتهك حرماتهم، ويسرق أرضهم، ويشردهم في كل مكان.

وفي الأردن أَصدر أكثر من 50 عالم في الشريعة من الأساتذة البارزين في البلاد، فتوى بوجوب المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل شرعا، على اعتبار ذلك من باب "أضعف الإيمان"، واعتبروا أن عدم الالتزام بواجب المقاطعة "موالاة لأعداء الله". وذهبت الفتوى إلى حد اعتبار المقاطعة الاقتصادية "أحد وجوه الجهاد الواجب شرعا وأن عدم الالتزام بمقاطعة العدو اقتصاديا بعد العلم بالحُكم من كبائر الذنوب وموالاة أعداء الله".

[1] فتوى توجب مقاطعة إسرائيل:  https://t.ly/e5miE

مواضيع ذات صلة