اليهود في فلسطين خلال العصر الحديث

تاريخ

10/25/20222 دقيقة قراءة

اليهود في العصر الحديث

عند الحديث عن تسلسل التاريخ اليهودي، فلا نجد تاريخا مستقلا لليهود، بل يوجد تواريخ مشتتة، كونهم طوائف مشتتة، وأيضا لم يكن لهم حضارة مستمرة لفترة طويلة في أي زمن من الأزمان، سواء زمن داود وسليمان عليهما السلام، أوغيره، لذلك نقول تاريخ يهود نيويورك، تاريخ يهود الفلاشا...وغيرهم.

إن الدراسات العلمية الأكاديمية لعدد من اليهود أنفسهم وعلى رأسهم الكاتب المشهور آرثر كوستلر في كتابه القبيلة الثالثة عشر، تُشير إلى أن الأغلبية الساحقة ليهود هذا الزمان ليست من ذرية بني إسرائيل القدماء، وأن معظم اليهود الآن هم من نسل يهود الخزر، وهم في أصلهم قبائل تترية قديمة كانت تعيش في منطقة القوقاز وأسست لنفسها مملكة في 6 ميلادي شمال غربي بحر الخزر بحر قزوين الحالي...وقد تهودت هذه المملكة في القرن 8 ميلادي، ودخل ملكها بولان في اليهودية سنة 740 للميلاد...وقد سقطت في نهاية القرن العاشر وأوائل القرن 11 ميلادي على يد تحالف الروس والبيزنطيين. وانتشر يهود الخزر في روسيا وأوروبا الشرقية والغربية واستقرت أعداد منهم في الأندلس أيام الحكم الإسلامي، وبعد سقوطها على يد الاسبان هاجروا إلى شمال افريقيا.[1] ويقول عالم آثار إسرائيلي ( زائيف)، أنهم لم يعثروا على شيء يتفق مع الرواية التوراتية، وأن قصص الآباء هي مجرد أساطير.

حتى تواجدهم خلال العصور القديمة كعرق "بني إسرائيل" كان محدودا مقارنة مع باقي الحضارات التي سكنت المنطقة، فقال المؤرخ البرفسور "ويلز" في كتابه (موجز التاريخ): "كانت حياة العبرانيين في فلسطين تشبه حالة رجل يصر على الإقامة وسط طريق مزدحم، فتدوسه الحافلات والشاحنات باستمرار، ومنذ البدء حتى النهاية، لم تكن مملكتهم سوى حادث طارئ في تاريخ مصر، وسوريا، وآشور، وفينقيا، ذلك التاريخ هو أكبر وأعظم من تاريخهم".

يقول "جوستاف لوبون": "إنّ بني إسرائيل في فلسطين لم يقتبسوا من الحضارات الأخرى سوى أخسّ ما فيها، فلم يأخذوا سوا الانحرافات، والخرافات، والعادات الضارة، وشيء من العبادات الضالة، وقرّبوا القرابين لآلهة آسيا، وقربوا القرابين "لبعل"، وكانوا يرون إلههم "يهوا" إلها عبوسا حاقدا بخيلا"، ومن ديانات آسيا: البوذية، والهندوس، والسيخ، وغيرهم من ديانات آسيا، التي تكره المسلمين حتى يومنا هذا، وتدعم إسرائيل بشكل علني، فعلاقتهم مع اليهود الإسرائليين هي علاقة قديمة عبر التاريخ.

ويقول أيضا: "إنّ تاريخ اليهود في ضروب الحضارة صفر، ولم يستحقوا أنْ يُعدوا من الأمم المتقدمة بحال، ولا تجد شعبا عطّل الذوق الفنيّ كما عطله اليهود".

إلا أن المرة الوحيدة التي كان لهم فيها شأن وعلو عادل في الأرض المقدسة، هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام، لأنهم كانوا تحت حكم أنبياء، ومن ثم عصوا الله واتبعوا الشياطين واستمروا في علو وفساد، حتى انتهت دولتهم، وفي ذلك الوقت كان آخر تواجد لليهود في المنطقة، حتى بداية العصر الحديث، ومن سنة 1501-1532م حث كل من دافيد روبين، وتلميذه سولومون مولوخ على ضرورة الذهاب لفلسطين "أرض معياد اليهود على حد زعمهم، وتأسيس إسرائيل جديدة هناك، أي أنهم كانوا يخططون لقيام هذه الدولة المزعومة لأكثر من 300 سنة قبل إطلاقها سنة 1948.

بدأت نواة الحركة الصهيونية بشكلها الفعلي [2] سنة 1806م، حين اجتمع المجلس الأعلى لليهود بدعوة من نابليون لاستغلال أطماع اليهود بالحصول على بلد وكيان موحّد، وتحريضهم على مساعدته، فمن هنا بدأ تقاطع المصالح بين الغرب واليهود، وقد بدأ اليهود بالفعل إقامة دولة لهم في فلسطين، خلال محاولتين لكنهم أخفقوا. لكن في سنة 1837، حيث تم إنشاء أول مستعمرة يهودية كاملة في فلسطين على يد اليهودي البريطاني مونتفيوري، وكان عدد سكانها في ذلك الوقت 1500 يهودي.[3]

وتُحسب أول خطوة عملية ذات شأن في المشروع الصهيوني الحالي هي تأسيس جمعية "أحباء صهيون"، ترجمة للاسم العبري "حوفيفي تسيون"، وهو اسم يُطلق على جمعيات صهيونية نشأت في روسيا سنة 1881م؛ بعد صدور قوانين أيار التي فرضت قيودا على الأقلية اليهودية هناك بين عامي 1881ـ1883م، وعلى حركة المهاجرين اليهود من روسيا، وبولونيا، ورومانيا إلى فلسطين "الهجرة الأولى 1881ـ1904". وكان هدف حركة أحباء صهيون محاربة اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، و"العودة إلى صهيون"، ويقصدون أرض فلسطين، متخذين شعار "إلى فلسطين"، وكانت حركة أحباء صهيون همزة الوصل بين ما أُطلق عليه "طلائع الصهيونية" في منتصف القرن التاسع عشر، وبداية الصهيونية السياسية مع ظهور تيودور هرتزل وانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1897م.[4]

وتم اختيار فلسطين دون غيرها، لأن فيها تاريخ يشد يهود العالم، فيسهُل إقناع اليهود، بالهجرة لفلسطين، مُنبثقا من عقيدتهم بهذه الأرض المقدسة، فيسهل بذلك تأسيس الفكر الصهيوني، ولهذا السبب تم تغيير بعض أسماء المدن الفلسطينية من العربية، لأسماء كانت من أيام عهد النبي إبراهيم، حتى النبي داوود وسليمان عليهم السلام، مثل مدينة حبرون "هبروا" وهي الخليل الآن، وإحلال المُقدّس اليهودي محل المُقدّس الإسلامي، فمثلا يقولون أن حائط البراق الذي يعد من أسوار المسجد الأقصى، أنه حائط المبكى ويعود للتاريخ اليهودي، وأنه يجب هدم المسجد الأقصى لأنه مبني على أثاث الهيكل المزعوم. إضافة إلى سرق وتشويه السرديات التاريخية والدينية، مثلا يذهبون لقبر سيدة بيزنطية، ويقولون أنه يعود لشخص صهيوني، وتسمية الحركة بالصهيونية، نسبة لجبل صهيون في القدس، الذي يُعظمه اليهود لأنه -حسب اعتقادهم- يرمز لمملكة داود ﷺ، واتخاذهم نجمة داود رمز لهم، والخطين هم النهر والبحر، وتوحيدهم ضمن لغة واحدة، وهي العبرية، التي كانت تُعد لغة ميته، حيث أن اليهود كانوا يتحدثون بلغة البلاد التي يسكنوها، فلم يكن لهم لغة موحدة. وفعل الكثير من الأمور لكي يُظهروا لليهود، ولكل العالم بأن لهم تاريخ أصيل، وبأحقيتهم بأرض فلسطين، وأخذها من العرب الفلسطينيين.

لكن علينا أن ندرك أن المشروع الصهيوني، هو أيدولوجية، علمانية، رأسمالية، في بدايتها استخدمت الديانية اليهودية كذريعة لتحقيق مصالحها، وأنها حركة تُطالب بتوطين اليهود المُشردين حول العالم وتجميعهم على أرض فلسطين، "أرض المعاد" حسب الأساطير اليهودية، وبذلك تحل مسألة الشتات اليهودي، لكن في الحقيقة المنتسبين للمشروع الصهيوني الماسوني، هم أفراد بعضهم يهود، وبعضهم مسلمين، أو مسيحين، أو بوذيين، أو ملحدين، أو علمانيين، أو من أي ملة أُخرى، فالصهيونية هي فكرة وليست دين، قائمة على الرأسمالية العلمانية التي تقتضي بأن الإنسان هو مركز الكون وصاحب القوى، وليس الله، وهذا يُبرر هجومهم وحروبهم على الشعوب، فهو لا يكتثر حتى لو كانت ضحيته فرد من عائلته، فهو نظام قائم على المصلحة الفردية، وقاعدته الأساسية، "البقاء للأقوى"، فالغاية دائما تبرر الوسيلة عندهم.

في سنة 1882م بمدينة خاركيف الأوكرانية، أسس الطلبة اليهود على رأسهم اليهودي الطبيب الصحفي والناشط ليون بنسكر جمعية "بيلو"، مطالبين بتجميع اليهود ضمن دولة. ففي بداية الأمر حددت لنفسها هدفا عمليا، بسيط التنفيذ وذا فعالية كبيرة في إنجاز المشروع الصهيوني، وهو إقامة تجمعات فلاحية لليهود الشرقيين في فلسطين.

ففي عام 1882م بدأت أفواج المهاجرين من اليهود الخزر، من مناطق بحر قزوين، بالهجرة إلى فلسطين. وأول من تنبه إلى أعداد المهاجرين، هم المزارعون الفلسطينيون، وعارضوا هذا الأمر. وعلى الرغم من إصدار السلطات العثمانية قانون يحد من هجرتهم، مع ذلك قُدر عدد الفوج الأول بألفي يهودي وارتفع هذا العدد ليصل إلى 25 ألف يهودي عام 1903م.

في سنة 1890م ابتكر الصحفي السويسري ناثان بيرنباوم، زميل هرتزل، مصطلح الصهيونية؛ كان بيرنباوم يؤكد على النهضة السياسية لليهود بعودتهم الجماعية إلى فلسطين، ويصبح لهم كيان سياسي وقومي مستقل. وقبل ذلك كان هناك محاولات من قبل مجموعة من الحاخامات اليهودية بإنشاء كيان مستقل لهم، لأنهم كما كانوا يدعون بأنهم يعانون من معاداة السامية التي اجتاحت أوروبا آنذاك.

لكن يعود الدور الأساسي في تأسيس الحركة الصهيونية للكاتب والصحفي السويسري ثيودور هرتزل، وهو قائد المنظمة الصهيونية، مع أنه من عائلة يهودية، إلا أنه لم يكن متديّنا، بل استغل الدين اليهودي لتحقيق أهداف الصهيونية، فالفِكر القائم باسم الدين اليهودي يشجّع اليهود من حول العالم، على تنفيذ فكرتهم.

فأقام أول مؤتمر صهيوني عالمي مؤتمر بازل، في بال بسويسرا عام 1897م، ونجح في تجميع يهود العالم حوله، كما نجح في جمع اليهود المؤثرين أصحاب رؤوس الأموال وكبار العائلات اليهودية الذين صدرت عنهم أخطر مقررات في تاريخ اليهود، وهي (بروتوكولات حكماء صهيون) المستمدة من تعاليم كتب اليهود المُحرّفة التي يقدسونها. ومنذ ذلك الوقت بدأ حكماء اليهود بالتحرك بدقة، ودهاء، وخفاء؛ لتحقيق أهدافهم التدميرية التي أصبحت نتائجها اليوم واضحة للعيان.

وكانت الصهيونية ومازالت تركز على الاستثمار في ثلاثة عناصر أساسية: الإعلام، والبنوك، والطعام. فالإعلام، لِقلبِ الحقائق لصالحها، وبث كل ما يخدم مصالحها. وأما البنوك، فأهم بنك لهم هو البنك الدولي، الذي يسعى إلى توريط الدول بأخذ القروض للسيطرة عليهم، ومن أجل ذلك، الصهيونية والغرب الآن، يُعادون تركيا، لأنها تحررت من البنك الدولي. فهذا يجعلها دولة حرة في قراراتها إلى حد كبيرة.

ويستثمرون أيضا في الطعام، لذلك عندما أقدم الناس على المقاطعة، وجودوا أن معظم المطاعم والمشروبات والأطعمة والمنتجات المشهورة، تعود لشركات تدعم هذا الكيان الغاصب.

كما أن الصهيونية كانت تتبع سياسة إغراء الرؤساء، كما فعلت مع بريطانيا وعدة دول غربية، ومع السلطان عبد الحميد، مقابل أخذ أراضي في فلسطين، لكنه رفض كل تلك الإغراءات. لكن الصهيونية نجحت في إغراء كثير من رؤساء الغرب، والعرب، والترك، وحصلت على ما تريد.

بدأ هرتزل جولته في العمل؛ لاحتواء السلطان عبد الحميد عن طريق الترغيب ثم الترهيب، فعرض عليه تدخل القوى الأوروبية لخفض المديونية العثمانية الهائلة، مقابل أراضي في فلسطين، لكن كان موقف السلطان عبد الحميد واضحا صريحا، حيث قال: "بلِّغوا الدكتور هرتزل ألا يبذل بعد اليوم شيئا من المحاولة في هذا الأمر- التوطن بفلسطين- فإني لست مستعدّا لأن أتخلى عن شبر واحد في هذه البلاد ليذهب إلى الغير، فالبلاد ليست ملكي، بل هي ملك شعب روَّى ترابها بدمائهم؛ فلتحتفظ اليهود بملايينهم من الذهب."

لكن المفاوضات لم تصل إلى نتيجة مع العثمانيين، لذلك قرر هيرتزل التوجه إلى بريطانيا واستطاع الحصول على فرصة عرض إشكال الهجرة (ومنها الهجرة اليهودية) أمام مجلس العموم، وأقام علاقات وثيقة مع ساسة بريطانيين بينهم وزير المستعمرات جوزيف تشامبرلين الذي اقترح عليه إقامة تجمع لليهود في "العريش" أو "أوغندا". ورغم فشل كثير من هذه المساعي، إلا أنها شكّلت نصرا سياسيا هاما، فقد جسدت اعتراف بريطانيا بأن اليهود أمة لها الحق في السيادة على حيز ترابي خاص بها. وكانت النتيجة "وعد بلفور" الصادر في الثاني نوفمبر/تشرين الثاني 1917م[5]، الذي مهّد الطريق لقيام إسرائيل بعد ذلك بثلاثة عقود.

وبسبب الرفض العثماني لبيع أراضي فلسطينية لليهود، قام الصهاينة بشراء أراضي في فلسطين، على أنهم بريطانيين، أو فرنسيين، أو روس، حتى يستطيعوا شراء الأراضي الفلسطينية، وهذا كان مسموح في العهد العثماني، لأنهم من بلاد معترف بها، وإلى الآن مازالوا مستمرين في شراء الأراضي الفلسطينية، تحت اسم شخص خليجي أو عربي، حتى يتمكنوا من شراء أكبر قدر ممكن من الأراضي الفلسطينية.

واجهت الحركة الصهيونية تحديا آخر، وهو الرفض داخل المجتمع اليهودي نفسه، إذ كانت فئات واسعة من هذا المجتمع غير مقتنعة بفكرة الدولة، ولم يحدث تحول ذو شأن في هذا المنحى إلا بعد إبادة اليهود على يد النازية، في محرقة الحرب العالمية الثانية.[6]

وبعد إنشاء الحركة الصهيونية، من سنة 1904-1918م، هاجر ما يقارب نحو 40 ألفا يهوديا، جاء معظمهم من روسيا ورومانيا، وكانوا أساسا من الشباب الذين جنّدتهم الأجهزة الاستعمارية والصهيونية. وبسبب الحرب العالمية الأولى سنة 1914م وصل عدد اليهود في فلسطين إلى نحو 85 ألف يهودي ووصلت مساحة الأراضي التي يمتلكونها إلى 418 ألف دونم، ونحو 44 مستعمرة زراعية.

كل الهجرات اليهودية التي حصلت قبل الـ 1900م، التي تقدر بـ 85 ألف يهودي في فلسطين، لم تكن منظمة، لكن ما حدث بعد هذا التاريخ، كان منظم، ومُسيّس.

ومنذ رفض الخلافة العثمانية تسليم أراضي فلسطينية لليهود، والصهاينة يحاولون إطاحة عبد الحميد، وإزالة الخلافة الإسلامية، وكان ذلك بالتزامن مع نشأة عدة منظمات وحركات تسعى إلى إسقاط السلطان عبد الحميد، وسيادات العلمانية، وكانت الصهيونية تُعزّز هذه الحركات بل كان بعض أعضائها، هم أعضاء في الحركة الصهيونية، ومن هذه الحركات: جمعية تركيا الفتاة العلمانية سنة 1889م، والشبيبة العثمانيون، وجمعية الاتحاد والترقي، التي كانت تسعى لإسقاط الخلافة العثمانية، حيث بدأت نشاطها تحت اسم "جمعية الاتحاد العثماني" سنة 1889، على يد مجموعة من طلبة الطب بمدرسة الطب العسكرية في إسطنبول، وكان أعضاء الجمعية قد تأثروا بأفكار التحرر والديمقراطية ونظام الدولة الحديثة، من خلال الاحتكاك بالفكر الغربي، فكانوا يسعون إلى إجراء تغييرات في الدولة العثمانية، وإصلاح النظام السياسي، وإحلال الديمقراطية، متبنين مبدأ العلمانية بالتشريعات والقوانين.

ونُظّم الطلاب ضمن خلايا سرية، متأثرين بالمحافل الماسونية في شعاراتها وهيكلها التنظيمي السري.[7] ثم بدأت الجمعية بالانزلاق نحو النزعة القومية، الطورانية[8]، التي تهدف إلى توحيد ذوي الأصل التركي، ومحاولة فرض التتريك على رعايا الدولة من قوميات أخرى، والمطالبة بتنقية اللغة التركية من الشوائب التي أدخلتها القوميات غير التركية، وخاصة العرب والفرس.

ولعبت الصهيونية دورا كبيرا في زيادة حدة النزعة التركية القومية، بعد الاندماج مع "جمعية الحرية العثمانية" عام 1907 ومقرها سالونيك، معقل اليهود والماسونية آنذاك، بعد ذلك انتقلت إلى اسطنبول. وكانوا يعملون على وجوب خلع السلطان عبد الحميد، والعمل بالدستور الذي وضعه مدحت باشا عام 1876، وإعادة البرلمان.

كانت بعض الدول الأوروبية عينها على البلاد التي كانت تملكها الدولة العثمانية، فهي أراضي تتمتع بأهمية استراتيجية، وثروات مهمة للغاية، وتريد السيطرة على هذه المناطق المحورية في العالم، التي تؤثر على حركة التجارة في العالم، وتُعد هذه الأراضي أيضا بمثابة أسواق غنية لتسويق منتجاتهم، فبريطانيا استعمرت مصر، وفرنسا احتلت تونس، وكانت إيطاليا تريد احتلال ليبيا لكن لم تستطع إلا بعد سقوط السلطان عبد الحميد.

سعت بريطانيا إلى تفكيك الدولة العثمانية عن طريق القيام بتحالفات مع أمريكا، وفرنسا، واليهود، "الصهاينة"، وحاولت أن يكون لها تحالفات مع الأتراك بدعم الحركات العلمانية التي تناهض بإنهاء الخلافة الإسلامية. وعملت على توحيد العشائر الكردية، وتشجيعهم على التمرد على العثمانيين. وبدأوا بدعم الأرمن للتخلص من السلطان عبد الحميد.

وقاموا بنشر فكرة الاختلافات الطائفية، والمذهبية والتركيز عليها، لتقسيم الدولة الإسلامية، وهذا كان دور أساسي للاستشراق، وهو تمزيق الكل الإسلامي، فبالوقت الذي يرى المسلمون أنفسهم "الكل المتكامل"، يراهم المستشرق أقسام، ويسعى لتعزيز هذه الأقسام.

وقاموا أيضا بتحالفات مع العرب، لتعزيز النزعة القومية عند العرب، وتحريرهم من الحكم العثماني، وأنكم كعرب لا يجوز أن يحكمكم غير العربي، حيث كانت الخلافة العثمانية، هي أول خلافة إسلامية ليست من عرق عربي، إضافة لنشر النعرات بين العرب أنفسهم. وهذه كانت وظيفة ضابط المخابرات البريطاني "توماس لورنس". ومنذ ذلك الوقت بدأت المحادثات بين البريطانيين والعرب، وخاصة مع الشريف حسين، الذي كان آنذاك هو موكلا من العثمانيين، ليكون أميرا على مكة. وكانت هذه المحادثات تحمل الكثير من الاحترام البريطاني للشريف حسين. ومن بعض هذه الخطابات:

من السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين - 30 أغسطس1915

إلى السيد الحسيب النسيب سلالة الأشراف، وتاج الفخار، وفرع الشجرة المحمدية والدوحة القرشية الأحمدية، صاحب المقام الرفيع، والمكانة السامية، السيد ابن السيد والشريف بن الشريف السيد الجليل المبجل دولة الشريف حسين، سيد الجميع، أمير مكة المكرمة قبلة العالمين، ومحط رجال المؤمنين الطائعين عمت بركته الناس أجمعين . بعد رفع رسوم وافر التحيات العاطرة والتسليمات القلبية الخالصة من كل شائبة نعرض أن لنا الشرف بتقديم واجب الشكر لإظهاركم عاطفة الإخلاص وشرف الشعور والإحساسات نحو الإنجليز. وقد يسرنا علاوة على ذلك أن نعلم أن سيادتكم ورجالكم على رأي واحد وأن مصالح العرب هي نفس مصالح الإنجليز والعكس بالعكس. ولهذه النسبة فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحاً بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها. وإنا نصرح هنا مرة أخرى أن جلالة ملك بريطانيا العظمى يرحب باسترداد الخلافة إلى يد عربي صميم من فروع تلك الدوحة النبوية المباركة. وأما من خصوص مسألة الحدود والتخوم فالمفاوضة فيها تظهر أنها سابقة لأوانها - وتصرف الأوقات سدى في مثل هذه التفاصيل في حالة أن الحرب دائرة رحاها ولأن الأتراك أيضًا لا يزالون محتلين لأغلب تلك الجهات احتلالا فعليا، وعلى الأخص ما علمناه وهو مما يدهش ويحزن أن فريقا من العرب القاطنين في تلك الجهات نفسها، قد غفل وأهمل هذه الفرصة الثمينة التي ليس أعظم منها- وبدل إقدام ذلك الفريق على مساعدتنا نراه قد مد يد المساعدة إلى الألمان - نعم مد يد المساعدة لذلك السلاب النهاب الجديد وهو الألمان والظالم العسوف وهو الأتراك. مع ذلك فإنا على كمال الاستعداد لأن نرسل إلى ساحة دولة السيد الجليل وللبلاد العربية المقدسة والعرب الكرام من الحبوب والصدقات المقررة من البلاد المصرية وستصل بمجرد إشارة من سيادتكم وفي المكان الذي تعينونه. وقد عملنا الترتيبات اللازمة لمساعدة رسولكم في جميع سفراته إلينا ونحن على الدوام معكم قلبا وقالبا، مستنشقين رائحة مودتكم الزكية، ومستوثقين بعرا محبتكم الخالصة، سائلين الله سبحانه وتعالى دوام حسن العلائق بيننا.

وفي الختام أرفع إلى تلك السدة العليا كامل تحياتي وسلامي وفائق احترامي.

تحريراً في 19 شوال 1333 الموافق 30 أغسطس 1915

المخلص

السير آرثر مكماهون، نائب جلالة الملك

رد الشريف الحسين:

من الشريف إلى مكماهون بسم الله الرحمن الرحيم - مكة في 29 شوال سنة 1333 (9 سبتمبر سنة 1915)

لصاحب السعادة والرفعة نائب جلالة الملك بمصر، سلمه الله بمزيد من السرور والغبطة تلقيت كتابكم المؤرخ في 19 شوال وطالعته بكل احترام واعتبار رغم شعوري بغموضه وبرودته وتردده فيما يتعلق بنقطتنا الأساسية، أعني نقطة الحدود. وأرى من الضروري أن أؤكد لسعادتكم إخلاصنا نحو بريطانيا العظمى واعتقادنا بضرورة تفضيلها على الجميع في كل الشؤون وفي أي شكل، وفي أية ظروف ويجب أن أؤكد لكم أيضا أن مصالح أتباع ديانتنا كلها تتطلب الحدود التي ذكرتها لكم. ويعذرني فخامة المندوب إذا قلت بصراحة إن "البرودة" و"التردد" اللذين ضمنهما كتابه فيما يتعلق بالحدود وقوله إن البحث في هذه الشؤون إنما هو إضاعة للوقت، وإن تلك الأراضي لا تزال بيد الحكومة التي تحكمها...ويعذرني فخامته إذا قلت إن هذا كله يدل على عدم الرضا، أو على النفور أو على شيء من هذا القبيل. فإن هذه الحدود المطلوبة ليست لرجل واحد نتمكن من إرضائه ومفاوضته بعد الحرب بل هي مطالب شعب يعتقد أن حياته في هذه الحدود، وهو متفق بأجمعه على هذا الاعتقاد. وهذا ما جعل الشعب يعتقد أنه من الضروري البحث في هذه النقطة قبل كل شيء مع الدولة التي يثقون بها كل الثقة ويعلقون عليها كل الآمال وهي بريطانيا العظمى. وإذا أجمع هؤلاء على ذلك، فإنما يجمعون عليه في سبيل الصالح المشترك...

فإننا ثابتون في إخلاصنا نصرح بكل تأكيد بتفضيلنا لكم على الجميع أكنتم راضين عنا - كما قيل - أو غاضبين. أما ما يتعلق في قولكم بأن قسما من شعبنا لا يزال يبذل جهده في سبيل تأمين مصالح الأتراك، فلا أظن أن هذا يبرر "البرودة" و"التردد" اللذين شعرت بهما في كتابكم فيما يتعلق بموضوع الحدود، الموضوع الذي لا أعتقد أن رجلا مثلكم ثاقب الرأي ينكر أنه ضروري لحياتنا الأدبية والمادية. وأنا حتى الساعة لا أزال أنفذ ما تأمر به الديانة الإسلامية في كل عمل أقوم به، وأراه مفيدا وصالحا لبقية المملكة، وإني سأستمر في هذا إلى أن يأمر الله في غيرذلك. وأود هنا يا صاحب الفخامة أن أؤكد لكم بصراحة أن كل الشعب - ومن جملته هؤلاء الذين تقولون إنهم يعملون لصالح تركيا وألمانيا - ينتظر بفارغ الصبر نتائج هذه المفاوضات المتوقفة على موافقتكم أو رفضكم قضية الحدود، وقضية المحافظة على ديانتهم، وحمايتهم من كل أذى أو خطر. وكل ما تجده الحكومة البريطانية موافقا لسياستها، في هذا الموضوع، فما عليها إلا أن تعلمنا به وأن تدلنا على الطريق التي يجب أن نسلكها. ولذلك نرى أن من واجبنا أن نؤكد لكم أننا سنطلب إليكم في أول فرصة بعد انتهاء الحرب ما ندعه الآن لفرنسا في بيروت وسواحلها. ولست أرى حاجة هنا لأن ألفت نظركم إلى أن خطتنا هي آمن على مصالح إنجلترا من خطة إنجلترا على مصالحنا، ونعتقد أن وجود هؤلاء الجيران في المستقبل سيقلق أفكارنا كما يقلق أفكارها... وفوق هذا فإن الشعب البيروتي لا يرضى قط بهذا الابتعاد والانزواء وقد يضطرونا لاتخاذ تدابير جديدة قد يكون من شأنها خلق متاعب جديدة، تفوق في صعوبتها المتاعب الحاضرة. وعلى هذا لا يمكن السماح لفرنسا بالاستيلاء على قطعة صغيرة من تلك المنطقة. وأنا أصرح بهذا رغم أنى أعتقد وأؤمن بالتعهدات التي قطعتموها في كتابكم. ويستطيع معالي الوزير، وحكومته أن يثقا كل الثقة بأننا لا نزال عند قولنا وعزيمتنا وتعهداتنا التي عرفها مستر ستورس منذ عامين. ونحن ننتظر اليوم الفرصة السانحة التي تناسب موقفنا، وخاصة فيما يتعلق بالحركة التي أضحت قريبة والتي يدفعها إلينا القدر بسرعة ووضوح، لنكون حجة - نحن والذين يرون رأينا – في العمل ضد تركيا، ودون أن نتعرض للوم والنقد. وأعتقد أن قولكم "بأن بريطانيا لا تحثكم ولا تدفعكم للإسراع في حركتكم مخافة أن يؤدي هذا التسرع إلى تصديع نجاحكم "لا يحتاج إلى إيضاح ...إلا فيما يتعلق بمطالبكم بالأسلحة والذخائر عند الحاجة.

أعتقد الآن أن في هذا الكفاية...

وهذه فقط نموذج، ولكن هناك العديد من الخطابات التي يمكن رؤيتها من خلال "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"[9]

وفي ذات الوقت كانت الصهيونية تعمل على إثارة السموم، والدسائس حول السلطان عبد الحميد، ورميه بمختلف الاتهامات، ووصفه بأنه سكير فاسق ظالم متوحش، وإعطاء الدور البطولي لمصطفى كمال أتاتورك، الذي كان يسعى لتمزيق الوجود السياسي للمسلمين. وفي سنة 1909م تم إسقاط عبد الحميد، والتمهيد لإلغاء الخلافة.[10] حيث قال السلطان عبد الحميد في رسالته إلى محمود أبو الشامات، شيخه الشاذلي قبل وفاته بفترة:

"إن هؤلاء الاتحاديين أصروا علي أن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة فلسطين، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وقد وعدوا بتقديم 150 مليون ليرة إنجليزية ذهبا، فرفضت بصورة قطعية أيضا، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي الآتي: إنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهبا، فضلا عن 150 مليون ليرة إنجليزية ذهبا، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجه قطعي... لقد خدمت الملة الإسلامية والأمة المحمدية ما يزيد على 30 سنة، فلم أسوّد صحائف المسلمين آبائي وأجدادي من السلاطين والخلفاء العثمانيين، لهذا لن أقبل بتكليفكم بوجه قطعي أيضا. وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، وأبلغوني أنهم سيبعدونني إلى سالونيك فقبلت بهذا التكليف الأخير".[11]

وازداد الاضطراب في القصر العثماني، وبدأت تتفكك الأراضي العثمانية، وحصل خلافات بين جميعة الاتحاد والترقي، وجمعية تركيا الفتاة. وبعدها استلم عدت سلاطين، محمد الخامس، محمد السادس، عبد المجيد الثاني، حيث كان رمزا بلا سلطة. وخلال هذه السنوات 1909-1924م كانت الخلافة العثمانية تلتقط أنفاسها الأخيرة.

وفي سنة 1923 ولدت الجمهورية التركية وألغيت الخلافة، وأُعلن مصطفى كامل أتاتورك رئيسا لتركيا، وجعل أنقرة عاصمة للدولة الجديدة بدلا من إسطنبول.

كان أتتورك العسكري يتظاهر بالتدين، ويصلي في مقدمة الجنود، ويتملق للعلماء، وعموم المسلمين، حتى يكسب جميع أطياف المجتمع التركي، وفعلا استطاع أن يكتسب شعبية كبيرة في ذلك الوقت، وأصبح أيقونة الحرية، ومنذ ذلك الوقت بدأت تركيا تتغير بشكل جذري. فقام بـ:

إلغاء الخلافة الإسلامية، وفصل تركيا عن باقي أجزاء الدولة العثمانية؛ فحطم الدولة الإسلامية العظيمة. وأعلن العلمانية الإلحادية. وقام باضطهاد العلماء أبشع اضطهاد، وقتل منهم العشرات، وقضى على التعليم الإسلامي، ومنع مدارس القرآن الكريم، واستبدل اللاتينية بالعربية، وفتح باب تركيا لعلماء اليهود، وأغلق كثيراً من المساجد، وحرَّم الأذان، والصلاة باللغة العربية، وألغى الأوقاف، ومنع الصلاة في جامع (أيا صوفيا)، وحوَّله إلى متحف. وألغى المحاكم الشرعية، وفرض القوانين الوضعية المدنية السويسرية. وفرض العطلة الأسبوعية يوم الأحد، بدلاً من يوم الجمعة، وألغى استعمال التقويم الهجري، ووضع مكانه التاريخ الميلادي، وأجبر الشعب على تغيير الزي الإسلامي، ولبس الزي الأوروبي. حرَّم تعدد الزوجات، والطلاق، وساوى بين الذكر والأنثى في الميراث. شجع الشباب والفتيات على الدعارة، والفجور، وأباح المنكرات، بل كان قدوة في انحطاط الأخلاق، والفساد، وإدمان الخمر.[12]

في سنة 1938 توفي مصطفى كمال، فقام البرلمان التركي بعده بمنحه لقب أتاتورك (أبو الأتراك) اعتزازا به وتخليدا له.

في عام 1916 عينت الحكومة الفرنسية "جورج بيكو" قنصلها العام السابق في بيروت مندوبا ساميا لمتابعة شؤون الشرق الأدنى، ومفاوضة الحكومة البريطانية في مستقبل البلاد العربية، ولم يلبث أن سافر إلى القاهرة، واجتمع بـ"مارك سايكس" المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، بإشراف مندوب روسيا، وأسفرت هذه الاجتماعات والمراسلات عن تقسيم تركة الخلافة العثمانية، التي كانت تسمى في ذلك الوقت الرجل المريض، من خلال اتفاقية عُرفت باسم "اتفاقية القاهرة السرية"، ثم انتقلوا إلى مدينة بطرسبرغ الروسية، وأسفرت هذه المفاوضات عن اتفاقية ثلاثية سُميّت باتفاقية سايكس بيكو وذلك لتحديد مناطق نفوذ كل دولة على النحو التالي:[13]

- استيلاء فرنسا على غرب سوريا ولبنان وولاية أضنة.

- استيلاء بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وكذلك ميناء عكا وحيفا في فلسطين.

- استيلاء روسيا على الولايات الأرمنية في تركيا وشمال كردستان، وحق روسيا في الدفاع عن مصالح الأرثوذكس في الأماكن المقدسة في فلسطين.

- المنطقة المحصورة بين الأقاليم التي تحصل عليها فرنسا، وتلك التي تحصل عليها بريطانيا تكون اتحاد دول عربية أو دول عربية موحدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تقسم إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية، ويشمل النفوذ الفرنسي شرق بلاد الشام وولاية الموصل، بينما النفوذ البريطاني يمتد إلى شرق الأردن والجزء الشمالي من ولاية بغداد وحتى الحدود الإيرانية.

- ويصبح ميناء إسكندرون حرا.

- يخضع الجزء الباقي من فلسطين لإدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا.

وبناءً على المقولة المزيفة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". منحت بريطانيا بموجب وعد بلفور في سنة 1917 حقًا لليهود في تأسيس وطن قومي لهم في فلسطين، حيث كان عدد اليهود المهاجرين 50 ألفاً فقط، في حين كان عدد سكان فلسطين من العرب في ذلك الوقت أكثرمن 650 ألفا من المواطنين الساكنيين منذ آلاف السنين في البادية والريف والمدن. ولكن هذا الوعد تجاهلهم ولم يعترف لهم إلا ببعض الحقوق المدنية والدينية، متجاهلا حقوقهم السياسية والاقتصادية والإدارية.

بهذا الوعد تحققت العبارة الشهيرة "لقد أعطى من لا يملك وعدا لمن لا يستحق"، وليكون ذلك اليوم يوما أسود في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل في تاريخ البشرية كلها، وضربة للعدالة والشرعية الدولية. وجاء الوعد على شكل تصريح موجّه من قبل وزير خارجية بريطانيا آنذاك (آرثر جيمس بلفور)، في حكومة ديفيد لويد جورج في سنة 1917م إلى اللورد روتشيلد (أحد زعماء الحركة الصهيونية العالمية) وذلك بعد مفاوضات استمرت ثلاث سنوات دارت بين الحكومة البريطانية من جهة، واليهود البريطانيين والمنظمة الصهيونية العالمية من جهة أخرى؛ واستطاع من خلالها الصهاينة إقناع بريطانيا بقدرتهم على تحقيق أهداف بريطانيا، والحفاظ على مصالحها في المنطقة.

نص وعد بلفور: [14]

وزارة الخارجية -2نوفمبر 1917م

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرني جداً أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي، الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى. وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علما بهذا التصريح.

المخلص

آرثر بلفور

ووافقت كلا من فرنسا وإيطاليا على هذا الوعد رسميا سنة 1918م، ثم تبعها الرئيس الأمريكي ولسون رسميا وعلنيا سنة 1919م؛ وكذلك اليابان. وفي سنة 1920م، وافق المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر "سان ريمو" على أن يعهد إلى بريطانيا بالانتداب على فلسطين، وأن يوضع وعد بلفور موضع التنفيذ حسب ما ورد في صك الانتداب، وفي سنة 1922م وافق مجلس عصبة الأمم المتحدة على مشروع الانتداب الذي دخل حيز التنفيذ في سنة 1923م، وبذلك يمكننا القول: إن وعد بلفور كان وعدا غربيا وليس بريطانيا فحسب.

ويرى رجال القانون أن وعد بلفور باطل من الناحية القانونية؛ وبالتالي فإن كل ما نتج عنه، وكل ما تأسس عليه فهو باطل. فالوجود البريطاني في فلسطين كان مجرد احتلال، ولا يمنح الاحتلال، أو الانتداب الدولة المنتدبة حق التصرف بالأراضي الواقعة تحت وصايتها، أو أي جزء منها.[15]

وفلسطين ليست جزءا من الممتلكات البريطانية، حتى تمنحها لمن تشاء، ولأن الحكومة البريطانية أعلنت في مناسبات كثيرة وخاصة للعرب بأن الهدف من احتلالها هو تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية، وإقامة حكومة وطنية فيها، فقط. من هنا يرى خبراء القانون الدولي أن تصريح بلفور ليس له صفة الإلزام القانوني، فهو تصريح من جانب واحد. فضلا عن ذلك، فإن هذا الوعد يتعارض مع أحد أهم مبادئ القانون الدولي، ألا وهو مبدأ حق تقرير المصير الذي طالما نادى به الحلفاء وادعوا أنهم منحازون إليه وساعوا إلى تطبيقه في كل مكان. [16]

استنكر وغَضب العرب من هذا القرار، لذلك أرسلت بريطانيا رسالة إلى الشريف حسين، تؤكد فيها الحكومة البريطانية أنها لن تسمح بالاستيطان اليهودي في فلسطين إلا بقدر ما يتفق مع مصلحة السكان العرب من الناحيتين الاقتصادية والسياسية؛ ولكنها في الوقت نفسه أصدرت أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، بأن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن (خليفة هرتزل)؛ كما عملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمة لهم.

ومع بدأ زمن الانتداب البريطاني، توافد إلى فلسطين في هذه الموجة نحو 89 ألف مهاجر يهودي معظمهم من أبناء الطبقة الوسطى خاصة من بولندا، واستغلوا رؤوس الأموال الصغيرة التي أحضروها معهم لإقامة مشاريع صغيرة خاصة بهم. وبلغ تدفق المهاجرين الصهيونيين ذروته في عام 1925م حيث وصل عددهم إلى حوالي 33 ألفا مقابل 13 ألفا في عام 1924م، وبعد ذلك انخفض العدد مرة أخرى ليصل إلى نحو 13 ألفا في عام 1926م، ثم بدأت الهجرة بالانحسار عام 1927م بسبب الصعوبات الاقتصادية في البلاد آنذاك، والتحركات الفلسطينية الرافضة للتهجير اليهودي، فالشعب الفلسطيني لم يستسلم للهجرات وللوعود وللقرارات البريطانية والغربية والصهيونية، فمنذ سنة 1917 -1929 كان هناك تحركات فردية ضد الانتداب البريطاني، ثم بدأ بخوض ثورات متلاحقة، كان أولها ثورة البراق عام 1929م. فانخفض عددهم إلى ثلاثة آلاف، ثم ألفين فقط في عام 1928م. وقد وصل إجمالي عدد اليهود في فلسطين في نهاية هذه المرحلة حوالي 175 ألفاً استوطن 136 ألفا، منهم في 19 مستعمرة مدنية أما الباقون فقد انتشروا في نحو 110 مستعمرة زراعية. [17]

وفي سنة 1933م صدر الكتاب الأبيض الذي بموجبه قامت بريطانيا بتحديد الهجرة اليهودية بـ 75 ألفا خلال الخمس سنوات التالية وهكذا قل عدد المهاجرين عن الطريق الرسمي، وزاد عددهم عن الطريق غير الرسمي، و بلغ ذروته سنة 1935م ليصل عدد المهاجرين حوالي 62 ألفا، من دول وسط أوروبا التي تأثرت بعد وصول النازية إلى الحكم، فخلال الفترة بين عامي 1933 و1945 حدثت حادثة الهولوكوست؛ المحرقة التي أدت لقتل ملايين اليهود في ألمانيا. وقد بلغت نسبة المهاجرين اليهود من ألمانيا إلى فلسطين سنة 1938م نحو 52% من المجموع العام لليهود المهاجرين.[18]

وبعد وفاة رئيس اللجنة التنفيذية للحركة الوطنية الفلسطينية، موسى كاظم الحسيني في سنة 1934، وحل اللجنة والشروع في تجربة "القيادة من خلال الأحزاب" التي كانت مظهرا جديدا للعشائرية والإقطاعية السياسية، وقد ساعدت في ذلك سياسة المندوب السامي البريطاني الجديد "واكهوب". قامت على إثر ذلك ثورة الشيخ عز الدين القسام 1935، لإيمانهم بعدم جدوى العمل السياسي وأن العمل المسلح هو السبيل الوحيد لبلوغ الأهداف الوطنية، وقد أيقظت هذه الثورة الشعب الفلسطيني وأشعلت في نفسه الحماس للجهاد.[19]

ثم تلتها ثورة 1936م، التي كانت تعد نقلة نوعية في تاريخ الثورات والانتفاضات الفلسطينية، فأدت هذه الثورة إلى انخفاض أعداد المهاجرين اليهود لفلسطين. واستمرت هذه الثورات الفلسطينية الكبرى من سنة 1936-1939 حيث قاموا خلالها بـ 10595 عملية، ضد الانتداب البريطاني الذي كان يحمي ويدعم الهجرات اليهودية.

حيث سنت الحكومة البريطانية آنذاك الأنظمة والقوانين التي تُسهّل عملية الاستيلاء على الأراضي وتهجير الفلاحين وتجريدهم من أراضيهم، وتحولهم إلى عُمال يعانون من البطالة، وما ضاعف من حدة انتشار البطالة بين الفلسطينيين هو "مبدأ العمل العبري"، و"امتلاك العمل" الذي يُلزم العمل إلى مقاولين صهاينة حتى في بعض المناطق العربية، وتدني أجور العمال العرب في مقابل العمال الصهاينة في المهنة الواحدة، وارتفاع الضرائب على ملكية الأراضي من 9% إلى 15%، أما الفلاح الفلسطيني فقد كان يدفع 25% من صافي دخله ضرائب في السنوات العجاف. [20]

وبدأت الحرب العالمية الثانية في عام 1939 وانتهت في عام 1945 حيث قُتل فيها أكثر من 100 مليون شخص، وفي تلك الحرب لعبت الطائرات دورا أساسيا، خاصة أثناء إلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي، التي أدت لقتل أكثر من 80 مليون شخص، والتي على أثرها أعلنت اليابان حكومة وشعبا استسلامها، بالمقابل أن ما أُلقي على غزة في حرب 7 اكتوبر 2023 يقارب 3 قنابل ذرية، خلال أقل من 100 يوم فقط، ومازالت المقاومة والشعب يرفضون الاستسلام.

وعلى إثر ذلك انهزمت اليابان، وألمانيا وتم القضاء على النازية، وإيطاليا وتم القضاء على الفاشية، وانتصرت كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا وروسيا، وأصبح العالم ثنائي القطب، الرأسمالية، وتقودها الولايات المتحدة الأمريكية والتي انضم لها بعض دول غرب أوروبا، والاشتراكية، بزعامة الاتحاد السوفييتي، والتي انضم لها دول بعض شرق أوروبا. وكان لذلك أثر على الدول العربية، حيث تم فرض رقابة مشددة على الإعلام، ونفى عدد كبير من الزعماء العرب القوميين، وعلى إثر ذلك نشأت عدة حركات عربية سعت لاستقلال بلادهم لاحقا.

في تلك الفترة كان يسكن فلسطين كثير من المهاجرين اليهود، لذلك بقيت تحت قرار هيئة الأمم المتحدة، حتى عام 1947 حيث أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروع إقامة دولة يهودية على الأراضي الفلسطينية، وفي عام 1948 حصلت "النكبة" الفلسطينية، حيث انسحبت بريطانيا من فلسطين، وأعلنت العصابات الصهيونية على رأسها ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل، وأنها الوطن اليهودي، وأنّ القدس الغربية عاصمة لهم، محتلين 84% من المدينة.

فبهذا تعد إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تأسست من قبل هيئة الأمم المتحدة، بقرار رقم 181. وتم تقسيم فلسطين إلى أراضي عربية، وأراضي إسرائيلية، والقدس منطقة دولية.

بحلول عام 1948 بلغ عدد أفراد المنظمات الصهيونية نحو 100 ألف شخص، بالإضافة إلى أن الحركة الصهيونية كانت قد جنَّدت رجالا لها جاهزين للقتال في أي وقت، منهم 600 ألف جندي يهودي خدموا في الجيش الأميركي أثناء الحرب العالمية، و500 ألف جندي حارب مع السوفييت، و70 ألفا مع الجيش البريطاني، و15 ألفا مع الجيش البولندي. أي أكثر من مليون جندي، في المقابل، حظيت الجيوش العربية بتمويل شحيح، حيث بلغت الميزانية المُعتمَدة للجيش المصري بـ 60 مليون دولار آنذاك، ولذا طلبت الحكومة المصرية اعتمادا إضافيا قدره 16 مليون دولار للتجهيز للحرب. ولم تفلح إلا في تنظيم عشرة آلاف مقاتل أضافت إليهم فيما بعد نحو عشرة آلاف آخرين في حالة التعبئة القصوى. أما الأردن فأرسل 12 ألف مقاتل، في حين أرسل العراق 15 ألف مقاتل، ودخلت سوريا بـ5 آلاف مقاتل فقط، وقدَّمت المملكة العربية السعودية نحو 3000 مقاتل، وشارك لبنان بنحو 1000 مقاتل.

وعلى صعيد السلاح، لم يكن المشهد أقل تخبُّطا وعشوائية، فرغم أن التقدم التكنولوجي لصالح إسرائيل لم يكن فارقا، إلا أن حجم التسليح والطريقة التي تسلَّحت بها الجيوش العربية كان هزيلا، مقارنة بالتنظيم والتدريب على الجبهة الصهيونية. لذلك فشلت 6 جيوش عربية بالقضاء على إسرائيل.

ويرجّح البعض إلى أن أسباب فشل الجيوش العربية، هو تقاعس الأنظمة العربية بوضوح بعد قرار التقسيم الصادر من مجلس الأمن مباشرة، وبدأ التردُّد سيد الموقف، إذ إن فكرة إرسال الجيوش إلى فلسطين لم تحظَ بالحماس الكافي على مستوى الحُكام. وحتى الملك فاروق الذي أبدى فيما بعد حماسة واضحة تجاه الحرب، كان بعد قرار التقسيم مُتشكِّكا في جدواها، ورأى أنها يُمكن أن تضر بالقضية الفلسطينية دوليا.

إلا أن أغلبية هذه الدول دخلت الحرب تحت الضغط الشعبي من الجماهير العربية، وتحديدا ضغط الحركة الطلابية الناشئة كما حدث في العراق. والبعض رجّح سبب الخسارة لضيق الوقت الذي لم يسعفهم بتجهيز الجيوش بالشكل المطلوب، واضطرارهم لشراء أسلحة بعضها غالية ورديئة الصنع، خاصة أننا نتحدث عن فترة كان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيها، قد أصدر قرارا بحظر بيع الأسلحة للدول المتحاربة في فلسطين.[21]

وقد أخرج حسن البنى 10 ألاف جندي من جماعة الإخوان المسلمين للقضاء على إسرائيل بالتعاون مع الجيوش العربية، ومع أن جماعة حسن البنى قد أبلو بلاء حسنا، إلا أن التنسيق كان مخالفا مع الجيوش العربية التي لم تكن متفقة على قرار واحد، وغير مسلحة بشكل كافي، فكما يُقال صراع العروش يعرقل الجيوش.

وبعد ذلك حصلت هدنة بين الجيوش العربية والعصابات الصهيونية، في سنة 1948، وبناء على ذلك أصبحت الضفة الغربية تحت السيادة الأردنية، وغزة تابعة لمصر، وتم تأسيس تل أبيب من ضاحية من ضواحي يافا.

وبقي الوضع على ذلك، والاحتلال يزداد توغولا في الأراضي الفلسطينية، وأعداد اليهود يزداد في فلسطين، وازدادت المضايقات للشعب الفلسطيني، حتى سنة 1967 "النكسة" الفلسطينية، حيث شنت إسرائيل حرب على سوريا والأردن ومصر. وكانت النتيجة لصالح إسرائيل، حيث اتسع ما كانت تسيطر عليه إسرائيل إلى ثلاثة أضعاف ونصف الضعف ما كانت تسيطر عليه عام 1948 بحيث أصبحت سيناء وهضبة الجولان وقطاع غزة والضفة الغربية بما في ذلك شرق القدس، تابعة لإسرائيل.

كانت القدس الهدف الأول للعدوان الإسرائيلي عام 1967، حيث عزلتها قوات الاحتلال عن محيطها في الضفة. ويوم الخامس من يونيو/حزيران 1967 طوقت القوات الإسرائيلية مدينة القدس، واحتلوا جبل الطور وجبل المكبر. وفي صباح السابع من الشهر نفسه بدأ الطيران الحربي والمدفعية الإسرائيلية الهجوم على المواقع الأردنية في حي الشيخ جراح، ثم طوق الاحتلال المدينة من الشمال والجنوب، في حين سقطت الأحياء خارج سوق القدس القديمة، واستمر القتال داخل شوارع المدينة. وفي اليوم ذاته ركز الاحتلال قصفه الجوي والمدفعي على تلال القدس الشرقية في المطّلع وجبل الزيتون، وتقدم لواء المظليين باتجاه ساحة المتحف ورأس العامود وسلوان.

وفي الساعة العاشرة صباحا اقتحمت القوات الإسرائيلية القدس الشرقية واحتلت أحياءها وشوارعها الرئيسية، ووصلت باحة الأقصى وحائط البراق، ثم تمت السيطرة على كامل المدينة المقدسة مساء. وأعلن الاحتلال تشكيل إدارة عسكرية للضفة الغربية يرأسها "حاييم هرتسوغ"، وعُينت إدارة عسكرية لشرقي القدس برئاسة "شلومو لاهط".

في سنة 1968 حدثت معركة الكرامة، على الأراضي الأردنية بين جيش الاحتلال الإسرائيلي من جهة والجيش الأردني والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى، وانتصر فيها الطرف العربي، لتقلب المعادلة، فانسحبت القوات الإسرائيلية من شرقي الأردن، وكان عدد القتلى الإسرائيليين أكثر من عدد القتلى الأردنيين والفلسطنييين.

وبعد أن هدأت أصوات المدافع فوجئ الاحتلال بخروج الآلاف من سكان البلدة القديمة الذين ظن أنهم غادروا المدينة، فشرع في حملة اعتقالات وتهديد للسكان لإجبارهم على المغادرة طوعا، لكن السكان صمدوا وبقوا فيها إلى اليوم. فقامت إسرائيل بإحراق المسجد الأقصى عام 1969، وتعطيل وصول سيارات الإطفاء مما اضطر المقدسيين لاستخدام أدوات بدائية لنقل المياه. وبعد احتلال المدينة، عمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على تنفيذ توصية من اللجنة الوزارية لشؤون القدس عام 1973 وتتمثل في عدم السماح بأن تتجاوز نسبة السكان الفلسطينيين 22% من السكان.[22]

في سنة 1979 وقّعت مصر أول معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل معاهدة كيم ديفيد، حيث كانت هذه المعاهدة خرقا للموقف العربي الرافض للتعامل مع دولة إسرائيل، والتي تعهّد بموجبها الطرفان الموقعان بإنهاء حالة الحرب وإقامة علاقات ودية بينهما تمهيدا لتسوية، كما انسحبت إسرائيل من سيناء التي احتلتها عام 1967. فكانت هذه المعاهدة بمثابة أول قرار عربي صريح بالتطبيع مع إسرائيل.

في سنة 1987 دهس سائق شاحنة إسرائيلي مجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز بيت حانون شمال قطاع غزة. وعلى إثر ذلك اندلعت الانتفاضة الأولى سنة 1987، انتفاضة الحجارة. في مخيم جباليا في شمال قطاع غزة، ثم انتقلت إلى كل مناطق فلسطين.

ولوقف هذه الحركات والانتفاضات الفلسطينية، في عام 1991 نظّمت أمريكا مؤتمر دوليا للسلام في الشرق الأوسط، لإيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي على حد وصفهم. وكأن إسرائيل أصبحت أمر واقعيا على الشعب الفلسطيني، وأصبح لها الحق أن تطالب بالسلام على الأرض التي احتلها.

وفي هذا المؤتمر تحدثت إسرائيل مع العرب لأول مرة بحضور الفلسطينيين، ممثلين بمنظمة التحرير الفلسطينية "فتح"، التي سارت على ركب التسوية، وتوصل هذا المؤتمر إلى اتفاق أوسلو، ويُعدّ هذا الاتفاق أول اتفاق رسمي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وينص الاتفاق على الاعتراف بحقوقهما المشروعة والسياسية المتبادلة، وإقامة سلطة حكم ذاتية انتقالية فلسطينية على 22% من الأراضي الفلسطينية، وانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وغزة ضمن شروط وضعتها إسرائيل، وهذا كان ثاني تطبيع عربي فلسطيني صريح مع إسرائيل.

وبعده حدثت كثير من الاتفاقيات بين الطرفين، مثل في سنة 1994 اتفاق باريس، واتفاق القاهرة، وفي سنة 1995 اتفاقية أوسلو اثنين، أو اتفاقية طابا، ولكن جل نتائجهم كانت تصب في صالح إسرائيل بالنهاية، ووقف كل أشكال الحراك العسكري، والانتفاضات الفلسطينية وهذه كانت نقطة الانفصال بين فتح وحماس. فما كان تحت سيطرة السلطة من أراضٍ بعد الاتفاق، أعادت إسرائيل احتلاله بعد أقل من 8 سنوات. [23]

وكانت من سياسات الاحتلال ومازلت هي تطبيق ما يسمى قانون أملاك الغائبين[24] الذي يجيز مصادرة أملاك كل فلسطيني غادر الضفة قبل وخلال احتلالها. ومنها أيضا تغيير أسماء الأماكن والأحياء والآثار، مثل حائط البراق الذي سُمي حائط المبكى، وهدم أحياء فلسطينية كما حدث في حارة المغاربة، كما هُدم أكثر من 135 منزلا وعقارا، وتم تهجير قرابة ستة آلاف من سكان القدس. حيث اعتمد الاحتلال سياسة الاستيطان في عدة مراحل، بدأت أولاها بمصادرة نحو أربعة آلاف دونم أُنشأ عليها المستوطنات لفصل الأحياء بشريا وجغرافيا.

فبعد أن سعى اليمين الإسرائيلي بتعطيل عملية السلام ووقف اتفاق أوسلو، مستغلًّا العمليات الاستشهادية التي كانت تقوم بها فصائل المقاومة الفلسطينية في قلب إسرائيل. ففي عام 1996 شهد الأقصى سلسلة اعتداءات وحفريات أحدثت اهتزازات بجدران المسجد الشريف، ثم دخلت القدس منعطفا خطيرا بعد اقتحام شارون للمسجد المبارك عام 2000 حيث انفجرت انتفاضة الأقصى الثانية وارتقى آلاف الشهداء، تعبيرا عن أن عملية السلام لن تؤدي إلى التحرير، ويعتبر الطفل الفلسطيني "محمد الدرة" رمزا للانتفاضة الثانية.

ومن أبرز أحداث الانتفاضة الثانية، اغتيال وزير السياحة في الحكومة الإسرائيلية، "رحبعام زئيفي" على يد عناصر من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فعَمِل شارون على اغتيال أكبر عدد من قيادات الصف الأول في الأحزاب السياسية والحركات العسكرية الفلسطينية، في محاولة لإخماد الانتفاضة، ولإضعاف فصائل المقاومة وإرباكها، وفي مقدمتهم مؤسس حركة حماس الشيخ أحمد ياسين، وعدد من كبار مؤسسي الحركة، وأبو علي مصطفى (مصطفى الزبري)، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. وزجّ الاحتلال بكلا القائدين مروان البرغوثي وأحمد سعدات في السجون، وعشرات من قادة الفصائل الفلسطينية.

ثم في عام 2002 وضمن سياسات الاحتلال للتفرد بالمدينة المقدسة، أُقيم جدار العزل حول القدس ففصل 125 ألف مقدسي عن مراكز حياتهم داخل مدينتهم. وسحب الاحتلال هويات آلاف المقدسيين وهدم نحو ألفي منزل وضم آلاف الدونمات من الأراضي لصالح الاستيطان، حتى بات داخل القدس 26 مستوطنة، إضافة للمستوطنات المحيطة بالمدينة المقدسة.

وللحد من هذه الانتفاضات عُقدت هدنة سنة 2005 في شرم الشيخ بين الإسرائيليين والفلسطينيين، لكنها لم تقدم حلول واقعية للشعب الفلسطيني. واستمرت الاقتحامات والجرائم تتوالى على الشعب الفلسطيني، من صفقة القرن، والتطبيع الذي قامت به عدة دول عربية وعالمية، وغيرها من مواقف مُخزية سُجّلت في أرشيف الدول.

فالشعب الفلسطيني لم ولن يغفر لجميع من ساهم في نشأة هذا الاحتلال الغاصب، وتعريض الفلسطينيين لمعاناة الفقر، والأسر، والقتل، والتشريد في المخيمات، والشتات في كل العالم.

نشأة حماس:

نشأت الحركات الجهادية الفلسطينية، ومنها حركة المقاومة الإسلامية "حماس"- سنة 1986 على يد الشيخ أحمد ياسين وبعض عناصر الإخوان المسلمين العاملين في الساحة الفلسطينية. لكن وجودها تحت أسماء أخرى في فلسطين يرجع إلى ما قبل عام 1948، حيث تعتبر نفسها امتدادا لجماعة الإخوان المسلمين التي تأسست في مصر عام 1928.

بعد الانتفاضة الثانية عملت الفصائل الفلسطينية على تطوير أجنحتها العسكرية، وخاصة كتائب القسام الجناح المُسلح لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، التي توسعت بشكل كبير، عُدّة وعتادا، وباتت تمتلك صواريخ تضرب بها المدن والبلدات الإسرائيلية. وكانت مستوطنة "سديروت"، جنوبي إسرائيل، على موعد مع تلقي أول صاروخ فلسطيني محلي الصنع، أطلقته كتائب القسام، بعد عام من انطلاق انتفاضة الأقصى 2001.[25] واستمرت المقاومة الفلسطينية بتطوير أسلحتها، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن. وخاضت حماس تجربة المشاركة السياسية في 2006 وفازت في الانتخابات، لكن حصل اشتباكات بينها وبين السلطة الوطنية، لذلك اتخذت حماس من قطاع غزة مقرا لها في عام 2007.

بقلم:

أ. المعتصم بالله مطر

أ. لبنى معوض

[1] https://www.jordanzad.com/index.php?page=writer&id=55

[2] الصهيونية الحديثة هي المنسوبة لـ (تيودور هرتزل) الصحفي اليهودي النمساوي (1860- 1904)م، وهدفها الأساسي قيادة اليهود إلى حكم العالم.

[3] https://rb.gy/khlvcp

[4] https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=5004

[5] https://bit.ly/3tnPEBYالصهيونية...رحلة إقامة دولة يهودية

[6] https://bit.ly/3tnPEBY

[7] https://bit.ly/41Drss0

[8] الطورانية أو البانطورانية: هي حركة سياسية قومية ظهرت بين الأتراك العثمانيين أواخر القرن التاسع عشر ميلادي ، هدفت إلى توحيد أبناء العرق التركي الذين ينتمون إلى لغة واحدة وثقافة واحدة. أخذت الحركة اسمها من طوران وهي المنطقة الممتدة ما بين هضبة إيران وبحر قزوين مهد القبائل والشعوب التركية - معجم المصطلحات والالقاب التاريخية، الطــورانـيــة - الموسوعة العربية، نسخة محفوظة 27 نوفمبر 2018 على موقع واي باك مشين

[9] https://bit.ly/487psud مؤسسة الدراسات الفلسطينية

[10] https://rb.gy/nyax37 جمعية الاتحاد والترقي.. منظمة علمانية تركية أسقطت الخلافة العثمانية

[11] https://bit.ly/4888NXG عبد الحميد الثاني.. آخر سلطان شرعي للدولة العثمانية

[12] المبحث الثاني: تاريخ الصهيونية: https://rb.gy/y47lz9 الدرر السنية

[13] https://bit.ly/41zIJSB اتفاقية سايكس بيكو 1916

[14] https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=4943 وعد بلفور 1917

[15] يوم وعد ذكرى بلفور:https://bit.ly/3TVhvV1

[16] يوم وعد ذكرى بلفور: https://bit.ly/3TVhvV1

[17] الهجرة اليهودية منذ بداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي في أواخر الحكم العثماني https://bit.ly/3tuBQWi

[18] الهجرة اليهودية منذ بداية الاستعمار الاستيطاني اليهودي في أواخر الحكم العثماني https://bit.ly/3tuBQWi

[19] ثورة 1936 https://bit.ly/3GWXzco

[20] ثورة 1936: https://bit.ly/3GWXzco

[21] 75 عاما على النكبة...الأسباب الحقيقية للهزيمة الغامضة: https://bit.ly/3NEC4Rs

[22] حكاية القدس تحت الاحتلال: https://bitly.is/41CbVZl

[23] اتفاق أوسلو: https://bit.ly/48xOym6

[24] ويصنف هذا القانون من حيث المبدأ أملاك الفلسطينيين بأنهم "غائبون" حتى لو كانوا موجودين في البلاد أو يحملون الجنسية الإسرائيلية.

[25] إسرائيل حذرت الحركة من ضربات وشيكة.. أبرز اغتيالات قادة حماس: https://bit.ly/47ibmoG

مواضيع ذات صلة